الدكتور منصور أبوشريعة العبادي
جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
لقد ورد في التوراة عدة نبوءات حول ما سيحل باليهود من عقوبات إذا ما خالفوا أمر الله ولم يقيموا شرعه. وجاء القرآن الكريم بعد مرور ما يقرب من ألف وثمانمائة عام من نزول التوراة ليؤكد على أن اليهود لم يلتزموا فعلا بشرع الله إلا لفترة محدودة من الزمن رغم توالى ظهور الأنبياء فيهم ولذلك فقد حل عليهم جميع ما توعدهم الله به في التوراة من صنوف العذاب على يد بقية الأمم. وقد ذكرت التوراة أنواع مختلفة من العقوبات التي كتبها الله على اليهود إذا ما خالفوا أمر الله وجاء القرآن فأكد على هذه العقوبات وأكد على أن بعضها قد وقع عليهم بالفعل وستقع بقية العقوبات عليهم في المستقبل أي بعد نزول القرآن. ومن أهم هذه العقوبات عقوبة طردهم من أرض فلسطين المقدسة التي أقاموا فيها أول دولة لهم بعد أن دخلوها مع يوشع بن نون عليه السلام. وكذلك عقوبة تشتيتهم في جميع أنحاء الأرض وتسليط شعوب الأرض عليهم ليسوموهم شتى أنواع العذاب وإلقاء الرعب الدائم في قلوبهم حتى وهم في حالة أمنهم. وأخيرا العقوبة التي ستحل بهم بعد أن يجمعهم الله في آخر الزمان من شتى أنحاء العالم ليقيموا لهم دولة في فلسطين للمرة الثانية فيسلط الله عليهم المسلمين فيهزموهم شر هزيمة. إن تحقق هذه النبوءات بهذا الشكل الواضح بعد مرور آلاف السنين على نزولها في التوراة وكذلك القرآن الكريم لهو أكبر دليل على صدق ما أنزل الله من كتب وما أرسل من رسل.
لقد وردت النبوءات المتعلقة بالعقوبات التي ستقع على اليهود في مواضع كثيرة من أسفار التوراة فقد جاء في سفر اللاويين في الإصحاح السادس والعشرين ما نصه: 27″وَإِنْ كُنْتُمْ بِذلِكَ لاَ تَسْمَعُونَ لِي بَلْ سَلَكْتُمْ مَعِي بِالْخِلاَفِ، 28فَأَنَا أَسْلُكُ مَعَكُمْ بِالْخِلاَفِ سَاخِطًا، وَأُؤَدِّبُكُمْ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ حَسَبَ خَطَايَاكُمْ، 29فَتَأْكُلُونَ لَحْمَ بَنِيكُمْ، وَلَحْمَ بَنَاتِكُمْ تَأْكُلُونَ. 30وَأُخْرِبُ مُرْتَفَعَاتِكُمْ، وَأَقْطَعُ شَمْسَاتِكُمْ، وَأُلْقِي جُثَثَكُمْ عَلَى جُثَثِ أَصْنَامِكُمْ، وَتَرْذُلُكُمْ نَفْسِي. 31وَأُصَيِّرُ مُدُنَكُمْ خَرِبَةً، وَمَقَادِسَكُمْ مُوحِشَةً، وَلاَ أَشْتَمُّ رَائِحَةَ سَرُورِكُمْ. 32وَأُوحِشُ الأَرْضَ فَيَسْتَوْحِشُ مِنْهَا أَعْدَاؤُكُمُ السَّاكِنُونَ فِيهَا. 33وَأُذَرِّيكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ، وَأُجَرِّدُ وَرَاءَكُمُ السَّيْفَ فَتَصِيرُ أَرْضُكُمْ مُوحَشَةً، وَمُدُنُكُمْ تَصِيرُ خَرِبَةً. 34حِينَئِذٍ تَسْتَوْفِي الأَرْضُ سُبُوتَهَا كُلَّ أَيَّامِ وَحْشَتِهَا وَأَنْتُمْ فِي أَرْضِ أَعْدَائِكُمْ. حِينَئِذٍ تَسْبِتُ الأَرْضُ وَتَسْتَوْفِي سُبُوتَهَا. 35كُلَّ أَيَّامِ وَحْشَتِهَا تَسْبِتُ مَا لَمْ تَسْبِتْهُ مِنْ سُبُوتِكُمْ فِي سَكَنِكُمْ عَلَيْهَا. 36وَالْبَاقُونَ مِنْكُمْ أُلْقِي الْجَبَانَةَ فِي قُلُوبِهِمْ فِي أَرَاضِي أَعْدَائِهِمْ، فَيَهْزِمُهُمْ صَوْتُ وَرَقَةٍ مُنْدَفِعَةٍ، فَيَهْرُبُونَ كَالْهَرَبِ مِنَ السَّيْفِ، وَيَسْقُطُونَ وَلَيْسَ طَارِدٌ. 37وَيَعْثُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ كَمَا مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ وَلَيْسَ طَارِدٌ، وَلاَ يَكُونُ لَكُمْ قِيَامٌ أَمَامَ أَعْدَائِكُمْ، 38فَتَهْلِكُونَ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَتَأْكُلُكُمْ أَرْضُ أَعْدَائِكُمْ. 39وَالْبَاقُونَ مِنْكُمْ يَفْنَوْنَ بِذُنُوبِهِمْ فِي أَرَاضِي أَعْدَائِكُمْ. وَأَيْضًا بِذُنُوبِ آبَائِهِمْ مَعَهُمْ يَفْنَوْنَ”. وجاء في سفر التثنية في الإصحاح الرابع ما نصه: 25«إِذَا وَلَدْتُمْ أَوْلاَدًا وَأَوْلاَدَ أوْلادٍ، وَأَطَلْتُمُ الزَّمَانَ فِي الأَرْضِ، وَفَسَدْتُمْ وَصَنَعْتُمْ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا صُورَةَ شَيْءٍ مَّا، وَفَعَلْتُمُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ إِلهِكُمْ لإِغَاظَتِهِ، 26أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ أَنَّكُمْ تَبِيدُونَ سَرِيعًا عَنِ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ عَابِرُونَ الأُرْدُنَّ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكُوهَا. لاَ تُطِيلُونَ الأَيَّامَ عَلَيْهَا، بَلْ تَهْلِكُونَ لاَ مَحَالَةَ. 27وَيُبَدِّدُكُمُ الرَّبُّ فِي الشُّعُوبِ، فَتَبْقَوْنَ عَدَدًا قَلِيلاً بَيْنَ الأُمَمِ الَّتِي يَسُوقُكُمُ الرَّبُّ إِلَيْهَا. وجاء في سفر التثنية الإصحاح الثامن والعشرين ما نصه:: 63وَكَمَا فَرِحَ الرَّبُّ لَكُمْ لِيُحْسِنَ إِلَيْكُمْ وَيُكَثِّرَكُمْ، كَذلِكَ يَفْرَحُ الرَّبُّ لَكُمْ لِيُفْنِيَكُمْ وَيُهْلِكَكُمْ، فَتُسْتَأْصَلُونَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا. 64وَيُبَدِّدُكَ الرَّبُّ فِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَائِهَا، وَتَعْبُدُ هُنَاكَ آلِهَةً أُخْرَى لَمْ تَعْرِفْهَا أَنْتَ وَلاَ آبَاؤُكَ، مِنْ خَشَبٍ وَحَجَرٍ. 65وَفِي تِلْكَ الأُمَمِ لاَ تَطْمَئِنُّ وَلاَ يَكُونُ قَرَارٌ لِقَدَمِكَ، بَلْ يُعْطِيكَ الرَّبُّ هُنَاكَ قَلْبًا مُرْتَجِفًا وَكَلاَلَ الْعَيْنَيْنِ وَذُبُولَ النَّفْسِ. 66وَتَكُونُ حَيَاتُكَ مُعَلَّقَةً قُدَّامَكَ، وَتَرْتَعِبُ لَيْلاً وَنَهَارًا وَلاَ تَأْمَنُ عَلَى حَيَاتِكَ. 67فِي الصَّبَاحِ تَقُولُ: يَا لَيْتَهُ الْمَسَاءُ، وَفِي الْمَسَاءِ تَقُولُ: يَا لَيْتَهُ الصَّبَاحُ، مِنِ ارْتِعَابِ قَلْبِكَ الَّذِي تَرْتَعِبُ، وَمِنْ مَنْظَرِ عَيْنَيْكَ الَّذِي تَنْظُرُ. 68وَيَرُدُّكَ الرَّبُّ إِلَى مِصْرَ فِي سُفُنٍ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي قُلْتُ لَكَ لاَ تَعُدْ تَرَاهَا، فَتُبَاعُونَ هُنَاكَ لأَعْدَائِكَ عَبِيدًا وَإِمَاءً، وَلَيْسَ مَنْ يَشْتَرِي».
لقد وعد الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام أنه سبحانه سيسكن ذريته الأرض المقدسة وهي مدينة القدس وما حولها وقد أمر موسى عليه السلام اليهود بعد خروجهم من مصر أن يدخلوها معه ووعدهم بالنصر على من كان فيها من أقوام إلا أنهم رفضوا ذلك رفضا باتا وذلك خوفا من أن يقتلهم القوم الأشداء الذين كانوا فيها. وبسبب رفضهم هذا كتب الله عليهم التيه في الأرض خارج الأرض المقدسة لمدة أربعين سنة كما جاء في سفر العدد الإصحاح الثاني والثلاثين “13فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَأَتَاهَهُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، حَتَّى فَنِيَ كُلُّ الْجِيلِ الَّذِي فَعَلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ. ” وأكد ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى “يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)” المائدة.
وبعد انقضاء مدة التيه ووفاة موسى عليه السلام شرقي الأردن بعد أن أراه الله مدينة القدس من فوق الجبال الواقعة شرقي البحر الميت غرب مدينة مأدبا استلم قيادة اليهود من بعده وصيه يوشع بن نون عليه السلام الذي دخل بهم الأرض المقدسة من شرقي الأردن وذلك في عام 1130 قبل الميلاد على أغلب الأقوال. وبعد دخولهم تقاسم أسباط بني إسرائيل الإثنا عشر أراضي فلسطين وكان يحكم كل سبط من اليهود رجل منهم يسمى قاضيا ولذلك سميت تلك الفترة بعهد القضاة والتي امتدت لمائة عام تقريبا. وخلال هذه الفترة لم يكن لليهود ملكا حقيقيا على فلسطين فقد سلط الله عليهم الأمم التي من حولهم وهم العمونيون والكنعانيون والعمالقة والفلسطينيون والآراميون وغيرهم وذلك بسبب عودتهم للكفر بعد موت يوشع بن نون عليه السلام. وبعد أن تعرض اليهود لشتى أنواع العذاب من هذه الأمم طلب أسباط اليهود من نبيهم في ذلك العصر أن يجعل عليهم ملكا يقاتلون تحت رايته الأعداء الذين من حولهم فأوحى الله إلى نبيهم أن يجعلوا طالوت عليه السلام ملكا عليهم فقبلوا هذا الأمر بعدد تردد طويل كعادتهم وكان ذلك في عام 1025 قبل الميلاد مصداقا لقوله سبحانه وتعالى “أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بَالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)” البقرة. وبعد اختيار طالوت عليه السلام ملكا على اليهود قام بمحاربة الأقوام في المناطق المجاورة بقلة من بني إسرائيل بعد أن تقاعس أكثرهم عن القتال وانتصر على أعدائه وأصبح لليهود دولة قوية وبدأ بذلك ما يسمى بعهد الملوك حيث حكم بعد طالوت داود عليه السلام وكان نبيا وملكا ثم تبعه في الملك ابنه سليمان عليه السلام لقوله تعالى “وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)” النمل.
وبموت سليمان عليه السلام في عام 935 قبل الميلاد انتهت الفترة الذهبية من حكم اليهود لفلسطين والتي دامت ما يقرب من تسعين عاما. وبعدها انقسمت دولة اليهود إلى دولتين ضعيفتين بعد صراع فيما بينهم وبعد أن استعان كل طرف منهم على الآخر بالدول التي من حولهم كالمصريين والأشوريين والكلدانيين. فظهرت دولة يهوذا في جنوب فلسطين وعاصمتها القدس وكان يسكنها سبطين من أسباط اليهود وكان ملكها الأول رحبعام ابن سليمان عليه السلام ودولة إسرائيل في الشمال وعاصمتها السامرة وكان يسكنها بقية أسباط اليهود الإثني عشر وكان ملكها الأول يربعام بن نباط الذي كان عدوا لسليمان عليه السلام. وقد تعاقب على كل من الدولتين تسعة عشر ملكا وقد بدأ الفساد يظهر في الدولتين وبدأ اليهود بالابتعاد عن شرع الله وقاموا بعبادة العجل والذي ما انفك اليهود يشتاقون لعبادته منذ أن عبدوه في أيام موسى عليه السلام مصداقا لقوله تعالى “وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)”البقرة. وبنبذ اليهود لعهد الله عليهم وبعبادتهم الأوثان وارتكابهم الفواحش بدأت العقوبات العظيمة التي وعدهم الله إياها بالظهور. فقد تم تدمير دولة إسرائيل الشمالية بشكل كامل على يد الأشوريين في عام 722 قبل الميلاد بينما تم تدمير دولة يهوذا الجنوبية على يد البابليين في عام 586 قبل الميلاد وتم كذلك تدمير هيكل أو معبد سليمان عليه السلام. وقد تم سبي كثيرا من يهود المملكتين على يد الأشوريين والبابليين واتخذوهم عبيدا لهم وذلك تنفيذا لما كتبه الله عليهم. وبهذا انتهى ملك اليهود على الأرض المقدسة بسبب علوهم وإفسادهم فصدقت بذلك نبوءة التوراة فيهم “26أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ أَنَّكُمْ تَبِيدُونَ سَرِيعًا عَنِ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ عَابِرُونَ الأُرْدُنَّ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكُوهَا. لاَ تُطِيلُونَ الأَيَّامَ عَلَيْهَا، بَلْ تَهْلِكُونَ لاَ مَحَالَةَ. 27وَيُبَدِّدُكُمُ الرَّبُّ فِي الشُّعُوبِ،” وكما جاء في سفر التثنية الاصحاح الثامن والعشرين ما نصه: 49يَجْلِبُ الرَّبُّ عَلَيْكَ أُمَّةً مِنْ بَعِيدٍ، مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ كَمَا يَطِيرُ النَّسْرُ، أُمَّةً لاَ تَفْهَمُ لِسَانَهَا، 50أُمَّةً جَافِيَةَ الْوَجْهِ لاَ تَهَابُ الشَّيْخَ وَلاَ تَحِنُّ إِلَى الْوَلَدِ، 51فَتَأْكُلُ ثَمَرَةَ بَهَائِمِكَ وَثَمَرَةَ أَرْضِكَ حَتَّى تَهْلِكَ، وَلاَ تُبْقِي لَكَ قَمْحًا وَلاَ خَمْرًا وَلاَ زَيْتًا، وَلاَ نِتَاجَ بَقَرِكَ وَلاَ إِنَاثَ غَنَمِكَ، حَتَّى تُفْنِيَكَ. 52وَتُحَاصِرُكَ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِكَ حَتَّى تَهْبِطَ أَسْوَارُكَ الشَّامِخَةُ الْحَصِينَةُ الَّتِي أَنْتَ تَثِقُ بِهَا فِي كُلِّ أَرْضِكَ. تُحَاصِرُكَ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِكَ، فِي كُلِّ أَرْضِكَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ.
وجاء القرآن فأكد على أن هذه النبوءة قد تحققت فعلا فقال عز من قائل “وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)” الإسراء.
ورغم انتهاء حكم اليهود في فلسطين بعد الغزو الأشوري والبابلي وسبي كثيرا منهم إلا أنه بقي لهم بقية في الأرض المقدسة ولكن بدون دولة لهم بل عاشوا أولا تحت حكم الأشوريين (859-612 قبل الميلاد) ثم البابليين (597 – 539 قبل الميلاد) ثم الفارسيين (539-331 قبل الميلاد) ثم اليونانيين (331-64 قبل الميلاد) ثم الرومانيين (64 قبل الميلاد -638 بعد الميلاد). وقد أعاد الفارسيون بعض اليهود من سبي بابل إلى فلسطين وسمحوا لهم بإعادة بناء هيكل سليمان وذلك في عام 515 قبل الميلاد. وفي فترة حكم اليونانيين قام البطالسة اليونانيون الذين كانوا يحكمون مصر وفلسطين بسبي عدد كبير من اليهود إلى مصر لتصدق فيهم نبوءة التوراة “68وَيَرُدُّكَ الرَّبُّ إِلَى مِصْرَ فِي سُفُنٍ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي قُلْتُ لَكَ لاَ تَعُدْ تَرَاهَا، فَتُبَاعُونَ هُنَاكَ لأَعْدَائِكَ عَبِيدًا وَإِمَاءً، وَلَيْسَ مَنْ يَشْتَرِي”. وعندما قام السلوقيون اليونانيون حكام سوريا بانتزاع القدس من البطالسة قاموا أيضا بعملية سبي لقسم من اليهود إلى سوريا. وعندما احتل الرومان فلسطين في عام 64 قبل الميلاد قاموا بمعاملة اليهود معاملة حسنة وفي تلك الفترة ولد يحيى بن زكريا عليهما السلام والمسيح عيسى ابن مريم عليه وعلى أمه السلام وقام اليهود كعادتهم بتحريض الرومان على قتل يحيى عليه السلام ومن ثم عيسى عليه السلام فقتلوا يحيى ونجى الله عيسى عليه السلام ورفعه الله إليه لم يقتل ولم يصلب . وبسبب هذا فساد اليهود وقتلهم الأنبياء وبسبب ثورتهم على الرومان في عام 66م سلط الله عليهم الرومان فقاموا في عام 70 بعد الميلاد بقتل عدد كبير من اليهود وبهدم هيكل سليمان الثاني وسبي ما تبقى من اليهود إلى روما. وبتحول الرومان للدين المسيحي في القرن الثاني للميلاد قاموا بعملية إجلاء كامل لليهود من فلسطين ومن بيت المقدس على وجه الخصوص وحرموا دخول اليهود إليها. وعندما دخل المسلمون بيت المقدس عام 638 م بعد طرد الرومان منها عقدوا صلحا مع سكانها المسيحيين الذين اشترطوا على الخليفة عمر بن الخطاب أن لا يسكن بيت المقدس يهودي فأجابهم إلى ذلك. ومع دخول المسلمين بيت المقدس في عام 638م بقي تحت حكمهم حتى عام 1967م باستثناء فترة احتلال الصليبيين لها وبهذا لم يخلف الله سبحانه وتعالى وعده لإبراهيم عليه السلام فقد أسكن بني إسماعيل عليه السلام في الأرض المقدسة بعد أن نكث بني إسرائيل عهدهم مع الله.
ومن الموجز السابق لتاريخ اليهود يتبين لنا كيف أن الله قد قدر أن يسبى الأشوريون والبابليون قسما من اليهود إلى بابل ليتشتتوا بعد ذلك في ما وراءها من شعوب أسيا وأن يسبي اليونانيون البطالسة قسما إلى مصر ليتشتتوا في ما وراءها من شعوب أفريقيا وأن يسبي اليونانيون السلوقيون قسما إلى سوريا ليتشتتوا في ما وراءها من شعوب تركيا وأوروبا الشرقية وأن يسبي الرومان ما تبقى منهم إلى روما ليتشتتوا في شعوب أوروبا هذا إلى جانب ما هرب من اليهود إلى الجزيرة العربية فسكنوا في اليمن والمدينة المنورة وخيبر. إن الطريقة التي قدرها الله لتشتيت اليهود في كل أصقاع العالم بعد سبيهم هو في تسليط الشعوب عليهم فلا يكادون يستقرون في بلد حتى يبعث الله عليهم من الحكام من يسومهم سوء العذاب فيهربون إلى بلاد جديدة وهكذا دواليك حتى لا تكاد تخلو منهم أي بقعة من الأرض. ولا مجال في هذه المقالة لسرد ما تعرض له اليهود من قتل وتشريد ونفي على يد مختلف الشعوب على مدى ما يقرب من ألفين سنة بعد طردهم من فلسطين. وتبين الإحصاءات التي تمت في بداية القرن العشرين عن توزع اليهود في العالم أنه لا تكاد تخلو دولة من دول العالم من وجود اليهود فيها ويبين الجدول المرفق أعداد اليهود في جميع دول العالم وذلك في عام 1900م. إن تنفيذ وعد الله الذي ذكره في التوراة قبل ثلاثة آلاف عام ونيف وفي القرآن الكريم قبل 1400 عام من أنه سيشتت اليهود في جميع أصقاع الأرض لهو معجزة من المعجزات التي تثبت صدق ما أرسل الله من رسل وما أنزل الله من كتب مقدسة. فقد جاء ذكر ذلك في قوله تعالى “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)” الأعراف وفي قوله سبحانه وتعالى “ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)” آل عمران.
أما في التوراة فقد ورد ذلك في أكثر من سفر من أسفارها كما في سفر اللاويين “33وَأُذَرِّيكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ، وَأُجَرِّدُ وَرَاءَكُمُ السَّيْفَ فَتَصِيرُ أَرْضُكُمْ مُوحَشَةً، وَمُدُنُكُمْ تَصِيرُ خَرِبَةً.” وفي سفر التثنية ” فَتُسْتَأْصَلُونَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا. 64وَيُبَدِّدُكَ الرَّبُّ فِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَائِهَا،”. ومن خلال مقارنة النص القرآني والنص التوراتي عن حال اليهود في الشتات يتأكد لنا بأن النص القرآني لا يمكن أن يكون من تأليف البشر فالنص التوراتي وصف جميع يهود الشتات بأقبح الصفات بينما أكد القرآن الكريم على أن فيهم الصالحون فلو كان القرآن الكريم من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم لوصف اليهود كما وصفتهم التوراة ولربما زاد عليها وخاصة أنهم ناصبوه العداء منذ بداية دعوته عليه الصلاة والسلام. إن عقاب الله سبحانه وتعالى المتواصل والجماعي لليهود على مدى تاريخهم لا يعني أن جميعهم فاسدين فقد عاقب الله اليهود بالتيه في الأرض أربعين سنة عندما رفضوا الدخول إلى الأرض المقدسة وكان فيهم كليم الله موسى وأخيه هارون عليهما السلام. وكذلك الحال مع يهود الشتات فقد كان فيهم من بقي متمسكا بالتوراة وكان فيهم الراسخون في العلم فأمثال هؤلاء اليهود الصالحين هم من آمن بالإسلام في المدينة المنورة عندما عرفوا أنه الحق من ربهم كما جاء وصف ذلك في كتبهم فقال عز من قائل فيهم “أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)” الشعراء والقائل سبحانه “لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)” النساء.
ومن خلال مقارنة نصوص القرآن والتوراة نرى الاتفاق العجيب بينهما في وصف اليهود بالجبن والرعب وأنهم سرعان ما ينهزمون من أمام أعدائهم في الحروب فقد جاء في التوراة “36وَالْبَاقُونَ مِنْكُمْ أُلْقِي الْجَبَانَةَ فِي قُلُوبِهِمْ فِي أَرَاضِي أَعْدَائِهِمْ، فَيَهْزِمُهُمْ صَوْتُ وَرَقَةٍ مُنْدَفِعَةٍ، فَيَهْرُبُونَ كَالْهَرَبِ مِنَ السَّيْفِ، وَيَسْقُطُونَ وَلَيْسَ طَارِدٌ. 37وَيَعْثُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ كَمَا مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ وَلَيْسَ طَارِدٌ، وَلاَ يَكُونُ لَكُمْ قِيَامٌ أَمَامَ أَعْدَائِكُمْ، ” وجاء في القرآن قوله تعالى ” لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)” الحشر وقوله تعالى “وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)” الحشر وقوله سبحانه “وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)” المائدة.
أما النبوءة الأخيرة من نبوءات التوراة وكذلك القرآن الكريم فهي النبوءة المتعلقة بعودة اليهود من جميع أصقاع الأرض إلى أرض فلسطين المباركة. فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الثلاثين ما نصه: 1«وَمَتَى أَتَتْ عَلَيْكَ كُلُّ هذِهِ الأُمُورِ، الْبَرَكَةُ وَاللَّعْنَةُ، اللَّتَانِ جَعَلْتُهُمَا قُدَّامَكَ، فَإِنْ رَدَدْتَ فِي قَلْبِكَ بَيْنَ جَمِيعِ الأُمَمِ الَّذِينَ طَرَدَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَيْهِمْ، 2وَرَجَعْتَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِكَ، وَسَمِعْتَ لِصَوْتِهِ حَسَبَ كُلِّ مَا أَنَا أُوصِيكَ بِهِ الْيَوْمَ، أَنْتَ وَبَنُوكَ، بِكُلِّ قَلْبِكَ وَبِكُلِّ نَفْسِكَ، 3يَرُدُّ الرَّبُّ إِلهُكَ سَبْيَكَ وَيَرْحَمُكَ، وَيَعُودُ فَيَجْمَعُكَ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ بَدَّدَكَ إِلَيْهِمِ الرَّبُّ إِلهُكَ. 4إِنْ يَكُنْ قَدْ بَدَّدَكَ إِلَى أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ، فَمِنْ هُنَاكَ يَجْمَعُكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، وَمِنْ هُنَاكَ يَأْخُذُكَ، 5وَيَأْتِي بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي امْتَلَكَهَا آبَاؤُكَ فَتَمْتَلِكُهَا، وَيُحْسِنُ إِلَيْكَ وَيُكَثِّرُكَ أَكْثَرَ مِنْ آبَائِكَ. أما في القرآن الكريم فقد جاءت النبوءة في قوله تعالى “وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) ” الإسراء.
وتؤكد هذه الآيات من سورة الإسراء على أن اليهود سيحكمون الأرض المقدسة مرتين فقط لا غير المرة الأولى التي بدأت بدخولهم فيها مع يوشع بن نون عليه السلام وإقامتهم لدولتهم الأولى فيها ومن ثم قتلهم وسبيهم منها على يد الأشوريين والبابليين واليونانيين والرومان وقد أكد القرآن الكريم على أن المرة الأولى قد تمت في الماضي في قوله سبحانه “وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا”. أما المرة الثانية أو ما سماها القرآن بالآخرة فقد تحدثت الآيات عنها بصيغة المستقبل كما هو واضح من كلمات فإذا جاء ومن لام الاستقبال الموجودة في كلمات ليسوءوا وليدخلوا وليتبروا وكذلك من كلمة عسى التي تفيد الاستقبال. وتؤكد كلمة المسجد في هذه الآيات على أن الأرض التي سيعلو فيها اليهود في المرتين هي فلسطين حيث أن المسجد هو كناية عن بيت المقدس كما جاء في قوله تعالى “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)” الإسراء. وقد أشار القرآن الكريم في نهاية سورة الإسراء إلى أن العلو الثاني لليهود سيكون بعد أن يعيدهم الله إلى فلسطين من شتاتهم وذلك في قوله تعالى “وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)” الإسراء ويمكن للقارئ أن يلاحظ تكرار جملة ” فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ” في بداية السورة وفي نهايتها ليؤكد على أن الحديث هو عن العلو الثاني. أما كلمة لفيف في هذه الآية فإنها تعبر تمام التعبير عن طريقة جمع اليهود من شتى بقاع العالم ويسكنهم في فلسطين ليقيموا لهم دولة عليها رغم اختلاف ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم فلفيف القوم هو من جاء من خارجهم وسكن معهم لقول الأعشى “وقد علمت بكر ومن لف لفها …”. وتؤكد آية أخرى في نهاية سورة الإسراء على أن بعضا من علماء اليهود عندما يطلعون على القرآن الكريم وما فيه من نبوءات تتعلق بمصيرهم ويقارنوها مع نبوءات التوراة يخرون ساجدين لله معترفين بأن هذا القرآن لا بد أنه منزل من عند الله وذلك في قوله تعالى “قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)” الإسراء. ويتضح أيضا من هذه الآية أن المرة الثانية لم تحدث قبل نزول القرآن لقوله تعالى “إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا” فاللام في كلمة لمفعولا تفيد حدوثها في المستقبل.
الجزء الثانى :
لقد بدأ العلو الثاني والأخير لليهود على الأرض المقدسة في عام 1948م عندما قاموا باحتلال أجزاء كبيرة من فلسطين وجزءا من بيت المقدس ومن ثم احتلوا بقية أجزاء فلسطين وكامل بيت المقدس في عام 1967م. وبما أن الله قد كتب الذلة على اليهود في شتاتهم فإنه لا يمكن أن يكون بمقدورهم أن يقيموا دولتهم في فلسطين بأنفسهم ولذلك فقد قدر الله أن تدعمهم بريطانيا وبقية الدول الغربية لإنشاء دولتهم ومن ثم قامت أمريكا بحمايتهم من خلال إمدادها بالمال والسلاح وذلك تصديقا لقوله تعالى “ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ” آل عمران. وعندما قدر الله سبحانه وتعالى أن يعود اليهود من شتى أصقاع الأرض ويقيموا لهم دولة على الأرض المقدسة فإن هذا ليس بسبب صلاحهم بل لحكمة يريدها سبحانه. فنصوص التوراة تؤكد على أن سماح الله سبحانه وتعالى لليهود بدخول الأرض المقدسة حتى في المرة الأولى ليس بسبب صلاحهم رغم وجود الأنبياء فيهم بل لأمر قد قدره الله سبحانه وتعالى فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح التاسع ما نصه 1«اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ، أَنْتَ الْيَوْمَ عَابِرٌ الأُرْدُنَّ لِكَيْ تَدْخُلَ وَتَمْتَلِكَ شُعُوبًا أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكَ، وَمُدُنًا عَظِيمَةً وَمُحَصَّنَةً إِلَى السَّمَاءِ. 2قَوْمًا عِظَامًا وَطِوَالاً، بَنِي عَنَاقَ الَّذِينَ عَرَفْتَهُمْ وَسَمِعْتَ: مَنْ يَقِفُ فِي وَجْهِ بَنِي عَنَاقَ؟ 3فَاعْلَمِ الْيَوْمَ أَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ الْعَابِرُ أَمَامَكَ نَارًا آكِلَةً. هُوَ يُبِيدُهُمْ وَيُذِلُّهُمْ أَمَامَكَ، فَتَطْرُدُهُمْ وَتُهْلِكُهُمْ سَرِيعًا كَمَا كَلَّمَكَ الرَّبُّ. 4لاَ تَقُلْ فِي قَلْبِكَ حِينَ يَنْفِيهِمِ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ أَمَامِكَ قَائِلاً: لأَجْلِ بِرِّي أَدْخَلَنِي الرَّبُّ لأَمْتَلِكَ هذِهِ الأَرْضَ. وَلأَجْلِ إِثْمِ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ يَطْرُدُهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِكَ. 5لَيْسَ لأَجْلِ بِرِّكَ وَعَدَالَةِ قَلْبِكَ تَدْخُلُ لِتَمْتَلِكَ أَرْضَهُمْ، بَلْ لأَجْلِ إِثْمِ أُولئِكَ الشُّعُوبِ يَطْرُدُهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ أَمَامِكَ، وَلِكَيْ يَفِيَ بِالْكَلاَمِ الَّذِي أَقْسَمَ الرَّبُّ عَلَيْهِ لآبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. 6فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لأَجْلِ بِرِّكَ يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هذِهِ الأَرْضَ الْجَيِّدَةَ لِتَمْتَلِكَهَا، لأَنَّكَ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةِ. نعم صدق الله العظيم فإن اليهود شعب صلب الرقبة أي أنهم قوم معاندون فقد أذاقوا نبي الله موسى وأخيه هارون عليهما السلام الأمرين فعلى الرغم من المعجزات الباهرات التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام أمام أعينهم وهم في مصر وبعد خروجهم منها إلا أنهم سرعان ما عادوا إلى الكفر فعبدوا العجل بعد أيام معدودة من خروجهم وبعد أن فلق الله لهم البحر وإلى غير ذلك من أوجه العناد التي لخصها الله سبحانه وتعالى بقوله “يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا” النساء.
ومما يزيد من التأكيد على أن إقامة اليهود لدولتهم في فلسطين هو العلو الثاني هو قوله تعالى “ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)” الإسراء. ففي عام 1900م كان عدد اليهود في فلسطين 78 ألف يهودي أما عددهم الإجمالي في العالم حينئذ فقد كان يزيد قليلا عن أحد عشر مليون يهودي موزعين على جميع دول العالم وكانت أكثريتهم في روسيا حيث كان يوجد فيها ما يقرب من أربعة ملايين ثم دول أوروبا الشرقية بثلاثة ملايين ونصف ثم أمريكا بمليون ونصف ويبين الجدول التالي توزع اليهود في مختلف دول العالم في ذلك العام. وإذا ما دققنا النظر في توزع يهود العالم في عام 2005م والبالغ عددهم ما يزيد فليلا عن أربعة عشر مليون يهودي يتبين لنا وجه الإعجاز في الآية السابقة. فمن بين 14 مليون يهودي في العالم يوجد أحد عشر مليون يهودي في أمريكا وفلسطين أي ما نسبته ثمانين بالمائة تقريبا منهم ستة ملايين في أمريكا وخمسة ملايين في فلسطين. فالستة ملايين يهودي أمريكي يعيشون في أغنى وأقوى دولة في العالم وهم بذلك يمدون اليهود في فلسطين بأموالهم الخاصة بل الأكثر من ذلك أنهم بسبب نفوذهم السياسي والاقتصادي والإعلامي يجبرون أمريكا على دعم دولة اليهود بالمال والسلاح وكذلك حمايتهم عسكريا إن لزم الأمر وسياسيا في المحافل الدولية. أما الخمسة ملايين يهودي الذين في فلسطين فهم الذين يقاتلون العرب من حولهم ولم يجتمع قط هذا العدد الكبير من اليهود في فلسطين على مدى تاريخهم وهذا تصديق لنبوءة القرآن “وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)” الإسراء وكذلك نبوءة التوراة “5وَيَأْتِي بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي امْتَلَكَهَا آبَاؤُكَ فَتَمْتَلِكُهَا، وَيُحْسِنُ إِلَيْكَ وَيُكَثِّرُكَ أَكْثَرَ مِنْ آبَائِكَ”. إن الذين يقولون أن المرتين اللتين أفسد وعلا فيهما اليهود في الأرض المقدسة قد حدثتا قبل نزول القرآن إنما هم يكذبون الله سبحانه وتعالى من حيث لا يشعرون. فقد حدد الله سبحانه وتعالى في التوراة وأكد ذلك في القرآن أن هناك مرتين لعلو اليهود الكبير فإن كانتا قد مضتا فإن هذا العلو الحالي لا بد أنه العلو الثالث وهذا يتناقض مع ما جاء في القرآن الكريم. وبما أنه لا خلاف على حدوث العلو الأول قبل نزول القرآن فإن هذا العلو الحالي هو العلو الثاني والأخير وهو في الحقيقة أعظم من العلو الأول فاليهود في العلو الثاني تمكنوا من هزيمة جميع الدول العربية المحيطة بهم في حروب عدة رغم أنهم أكثر من اليهود عددا. وفي هذا العلو يفرض اليهود على كثير من دول العالم وخاصة الأمريكية والأوروبية أن تمدهم بالمال والسلاح ولا يمكن كذلك لأي شخص في العالم الغربي أن يذكر اليهود بسوء بشكل علني وإلا كان مصيره السجن بحجة معاداة السامية وإلى غير ذلك من أشكال العلو. أما الشق الثاني من النبوءة الأخيرة والتي ذكرها القرآن الكريم ولم تذكرها التوراة فهو مصير اليهود في العلو الثاني فقد أكد القرآن الكريم على أن الأمم المحيطة باليهود وهم العرب والمسلمون سيهزمون اليهود شر هزيمة ويحطمون هذا العلو تحطيما كاملا مصداقا لقوله تعالى ” فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)” الإسراء.